فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك أي: لا ينهى بعضهم بعضًا، وذلك أنهم جمعوا بن فعل المنكر والتجاهر به، وعدم النهي عنه.
والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر، فإذا فعلت جهارًا وتواطؤًا على عدم الإنكار كان ذلك تحريضًا على فعلها وسببًا مثيرًا لإفشائها وكثرتها.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيرًا للمعصية؟ قلت: من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء، لأنّ في التناهي حسمًا للفساد.
وفي حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك.
ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قرأ لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآية إلى قوله فاسقون ثم قال: والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن به على يد الظالم ولتأطرنه عن الحق اطرًا، أو ليضرب الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعنكم كما لعنهم»
. أخرجه الترمذي.
ومعنى لتأطرنه لتردنه.
وقيل: التفاعل هنا بمعنى الافتعال يُقال: انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف عنه، كما تقول: تجاوزوا واجتوزوا.
والمعنى: كانوا لا يمتنعون عن منكر.
وظاهر المنكر أنه غير معين، فيصلح إطلاقه على أيّ منكر فعلوه.
وقيل: صيد السمك يوم السبت.
وقيل: أخذ الرشا في الحكم.
وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم.
ولا يصح التناهي عما فعل، فإما أن يكون المعنى أرادوا فعله كما ترى آلات أمارات الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فينكر، وإما أن يكون على حذف مضاف أي: معاودة منكر أو مثل منكر.
{لبئس ما كانوا يفعلون} ذم لما صدر عنهم من فعل المنكر وعدم تناهيهم عنه.
وقال الزمخشري: تعجيب من سوء فعلهم، مؤكدًا لذلك بالقسم، فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المنكر وقلة عنايتهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كتاب الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب انتهى.
وقال حذّاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليمًا من المعصية، بل ينهي العصاة بعضهم بعضًا.
وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهي بعضهم بعضًا، واستدل بهذه الآية لأن قوله: لا يتناهون وفعلوه، يقتضي اشتراكهم في الفعل، وذمهم على ترك التناهي.
وفي الحديث: «لا يزال العذاب مكفوف عن العباد ما استتروا بمعاصي الله، فإذا أعلنوها فلم ينكروها استحقوا عقاب الله تعالى». اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} مؤذن باستمرار الاعتداء فإنه استئناف مفيد لاستمرار عدم التناهي عن المنكر، ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات، وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهيًا ومنهيًا معًا، كما في تراؤا الهلال، وقيل: التناهي بمعنى الانتهاء من قولهم: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع، فالجملة حينئذٍ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء، ومفيدة لاستمرارهما صريحًا، وعلى الأول: إنما تفيد استمرار انتفاء النهي عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله، وعلى التقديرين لا تقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافًا لأبي حيان.
والمراد بالمنكر قيل: صيد السمك يوم السبت، وقيل: أخذ الرشوة في الحكم، وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم، والأولى أن يراد به نوع المنكر مطلقًا، وما يفيده التنوين وحدة نوعية لا شخصية، وحينئذٍ لا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي، أو الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أنه لو جعل المضي في {فَعَلُوهُ} بالنسبة إلى زمن الخطاب لا زمان النهي لم يبق في الآية إشكال، ولما غفل بعضهم عن ذلك قال: إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهي عما وقع مع أن النهي لا يتصور فيه أصلًا، وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه، فلابد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه، وهذا إما بتقدير مضاف قبل {مُّنكَرٍ} أي معاودة منكر، أو بفهم من السياق، أو بأن المراد فعلوا مثله، وبحمل {فَعَلُوهُ} على أرادوا فعله، كما في قوله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ} [النحل: 98].
واعترض الأول بأن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول، فلابد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين، وفيهما من التعسف ما لا يخفى، وقيل: إن الإشكال إنما يتوجه لو لم يكن الكلام على حد قولنا: كانوا لا ينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة مثلًا، فإنه لا خفاء في صحته، وليس في الكلام ما يأباه، فليحمل على نحو ذلك.
وقوله سبحانه: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} تقبيح لسوء فعلهم وتعجيب منه، والقسم لتأكيد التعجيب، أو للفعل المتعجب منه، وفي هذه الآية زجر شديد لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عقابًا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم»، وأخرج أحمد عن عدي بن عميرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة»، وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده ليخرجن من أمتي أناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون» والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها ترهيب عظيم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبئهم به. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه} مستأنفة استئنافًا بيانيًا جوابًا لسؤال ينشأ عن قوله: {ذلك بما عَصوا}، وهو أن يقال كيفَ تكون أمّة كلّها مُتمالئة على العصيان والاعتداء، فقال: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}.
وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أنّ النّفَر القليل، فإذا لم يجدوا من يغيِّر عليهم تزايدوا فيها ففشت واتّبَع فيها الدّهماءُ بعضهم بعضًا حتّى تعمّ ويُنسى كونها مناكرَ فلا يَهتدي النّاس إلى الإقلاع عنها والتّوبةِ منها فتصيبهم لعنة الله.
وقد روى التّرمذي وأبو داوود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كانَ الرجل من بني إسرائيل يلقَى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول: يا هذا اتّقِ الله ودَع ما تصنع، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وخليطَه وشريكَه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داوود وعيسى ابن مريم، ثُمّ قرأ: {لُعن الّذين كفروا من بني إسرائيل} إلى قوله: {فَاسقون} [المائدة: 78 81] ثُمّ قال: والّذي نفسي بيده لتأمُرُنّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنّ عن المنكر ولتأخُذُنّ على يد الظّالم ولتأطُرُنَّهُ على الحقّ أطْرا أوْ لَيضربَنّ الله قلوبَ بعضكم على بعض أو ليلعنُكم كما لَعنهم».
وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضًا باعتبار مجموع الأمّة وأنّ نَاهيَ فاعل المنكر منهم هو بصدد أن يَنهاه المنهيّ عندما يرتكب هو مُنكرًا فيحصل بذلك التّناهي.
فالمفاعلة مقدّرة وليست حقيقيَّة، والقرينة عموم الضّمير في قوله: {فَعلوه}، فإنّ المنكر إنّما يفعله بعضهم ويسكُت عليه البعض الآخر؛ وربّما فعل البعضُ الآخر منكرًا آخرَ وسَكت عليه البعض الّذي كان فعَل منكرًا قبله وهكذا، فهم يصانعون أنفسهم.
والمراد بـ {ما كانوا يفعلون} تَرْكُهم التناهيَ.
وأطلق على ترك التناهي لفظ الفِعل في قوله: {لبئس ما كانوا يفعلون} مع أنّه ترك، لأنّ السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرّضا به والمشاركة فيه.
وفي هذا دليل للقائلين من أئمّة الكلام من الأشاعرة بأنّه لا تكليف إلاّ بفعل، وأنّ المكلّف به في النّهي فِعْل، وهو الانتهاء، أي الكفّ، والكفّ فعل، وقد سمّى الله الترك هنا فِعلًا.
وقد أكّد فعل الذّم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمّه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}.
الرضاءُ بمخالفة أمر الحبيب مُوَافَقَةٌ للمخالف، ولا أَنْفَةَ بعد تميز الخلاف. والسكوتُ عن جفاءٍ تُعامَلُ به كَرَمٌ، والإغضاءُ عما يُقَال في محبوبك دناءةٌ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}.
ونعلم أن حراسة منهج الله تعطي الإنسان السلامة في حركة الحياة على الأرض. وقد جعل الحق سبحانه في النفس البشرية مناعة ذاتية، فساعة توجد في الإنسان شهوة على أي لون سواء في الجنس أو في المال أو في الجاه. فقد يحاول الوصول إليها بأي طريق، ولا يمنعه من ذلك إلا الضمير الذي يفرض عليه أن يسير في الطريق الصحيح. هذا الضمير هو خميرة الإيمان، وهو الذي يلوم الإنسان إن أقدم على معصية، هذا إن كان من أصحاب الدين.
ولنا أن ندقق في هذا القول القرآني لأنه يحمل الوصف الدقيق للنفس البشرية في حالتها المتقلبة، فها هوذا قابيل يتحدث عنه القرآن: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30].
ومن بعد ذلك، قتل قابيل هابيل، ثم هدأت النفس من سعار الغضب وسعار الحقد، وانتقل قابيل إلى ما يقول عنه القرآن: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} [المائدة: 30].
فبعد أن غواه غضبه إلى أن قَتَل أخاه وسلبه الحياة. يبعث الله له غرابًا ليريه كيف يواري سوأة أخيه؛ لأنه لم يكن يعرف كيف يواري جثمان أخيه. وانتقل بالندم من مرحلة أنه لم يرع حق أخيه في الحياة فأراد أن يرعى حق مماته، إذن فالنفس البشرية وإن كانت لها شهوات إلا أن لها اعتدالا مزاجيا يتدخل بالندم عندما يرتكب الإنسان إثمًا أو معصية. ولذلك تجد كثيرًا من الناس تعاني من متاعب لأنهم ارتكبوا معاصي، لكنهم يريدون الاعتراف بها لأي إنسان وأي إنسان يتلقى الاعتراف ليست لديه القدرة على تدارك آثار تلك المتاعب؛ لأنها وقعت وانتهى الأمر.
لكن لماذا يريد الإنسان أن يعترف لأخر بمعصية؟. إنه اعتراف للتنفيس؛ لأن كل حركة في النفس البشرية ينتج عنها تأثير في النزوع، فعندما يغضبك أحد فأنت تنزع إلى الانتقام، ولهذا يأمرك الشرع حين يغضبك أحد أن تغير من وضعك وقل: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}. حتى تصرف الطاقة السعارية عندك، فإن أغضبك أحد وأنت قائم فاقعد، وإن كنت قاعدا فاضطجع، وأن كنت ثابتًا في مكان فلتسر بضع خطوات. والشرع حين يطلب منك أن تتحرك لحظة الغضب فذلك ليزيل من جسدك بعض الطاقة الفائضة الزائدة التي تسبب لك الغليان فتقل حدّة الغضب.